فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (24):

.تحريم ذوات الأزواج:

قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)}.
المحصنات عطف على {أُمَّهاتُكُمْ} فهنّ من المحرمات.
مادة (ح ص ن) تدلّ على المنع، ومنه الحصن، لأنه يمنع من فيه، ويقال: أحصن الرجل إذا تزوّج، وأحصن إذا أسلم، وأحصن إذا صار حرّا، وأحصن إذا عف، وفي جميع ذلك معنى المنع، فالرجل إذا تزوّج منع نفسه من الزنى، وإذا أسلم منع نفسه من القتل، وإذا عتق فقد منع نفسه من الاستيلاء، والعفيف يمنع نفسه من الفحش.
فمن وروده بمعنى تزوج قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحصنت؟» يعني تزوجت. قال: نعم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن».
ومن وروده بمعنى أسلم قوله: {فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ} ومن وروده بمعنى الحرية قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}.
ومن وروده بمعنى العفاف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} [النور: 4].
والمراد بالمحصنات في الآية المتزوجات، فهي تحرّم ذوات الأزواج، واستثنى المملوكات، وقد استشكل هذا الاستثناء، فإنّ ذوات الأزواج إذا كنّ من إمائه محرمات على مالكيهن، ولأجل هذا اختلف في تأويل الآية: فذهب بعضهم إلى أن ذلك في بيع الأمة، فهو يقول: حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلا ما طرأ على ملكهن ببيع، فيحللن، وذلك لأنّ بيع الأمة طلاقها، فمن باع أمة متزوجة كان ذلك البيع طلاقا لها، وهذا ليس براجح، لأنّ الزواج كما جامع الملك السابق يجامع الملك الطارئ، وقد ورد أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة لما بيعت، ولو كان بيعها طلاقها لما خيّرها.
وقيل- وهو المختار- إنّ ذلك في حق المسبيات إذا كنّ ذوات أزواج، فهو يقول: وحرّم عليكم ذوات الأزواج إلا ما ملكتموهن بسبي، فسباؤكم إياهنّ هادم لنكاحهن.
ويؤيد هذا ما ذكر في سبب نزول الآية.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، وكأنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحرّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أي فهنّ حلال لكم إذا انقضت عدتهن.
فتضمّن هذا الحكم إباحة وطء المسبية بالملك، وإن كان لها زوج من الكفار.
وقيل: إنّ المراد بالمحصنات الحرائر، وقوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إلا ما ملكتموهنّ بعقد زواج صحيح، وهذا ليس بظاهر، لأنّ الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6] فجعل ما ملكت أيمانهم مقابلا للأزواج، والقرآن يفسّر بعضه بعضا.
(كتب الله عليكم) مصدر مؤكّد أي: كتب الله ذلك- وهو تحريمه ما حرّم عليكم- كتابا، وفرضه فرضا.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} عطف على قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ومن قرأها بالبناء للفاعل عطفها على كتب المقدر.
محصنين: أعفّاء.
مسافحين: زناة، من السفاح وهو الزنى، مأخوذ من السفح، وهو صب الماء، لأنّ الزاني لا غرض له من فعلته إلا ذلك.
{أَنْ تَبْتَغُوا} مفعول لأجله، أي: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} إرادة {أَنْ تَبْتَغُوا} السناء {بِأَمْوالِكُمْ} حالة كونكم أعفّاء غير زناة، فلا تضيّعوا أمولكم في الزنى، فتذهب أموالكم، وتفتقروا، ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} بدلا من قوله: {ما وَراءَ ذلِكُمْ}، واسم الإشارة في قوله: {ذلِكُمْ} يرجع إلى المحرّمات المذكورة قبل، وقد اعترض على ذلك بأنّ هذا يقتضي أنّ المحرمات هي من ذكرن، وأنّ من عداهن حلال، مع أنه قد ثبت حرمة نساء غير من ذكرن، وذلك كالمبتوتة، وما زاد على الرابعة، والملاعنة، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
أما الجمع بين المرأة وعمتها فقد فهم تحريمه من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} بطريق القياس، لأنّ العلة في تحريم الجمع هي القرابة القريبة، فكلّ من بينهما قرابة قريبة حرم الجمع بينهما، فجاز أن يقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} أي من ذكرن أي إما بطريق النص، أو بطريق القياس.
ومن يجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد المشهور يقول: إنّ آية الحلّ خصّصت بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا المرأة على خالتها».
وأما البقية: غير الملاعنة فقد خصّصت آيات تحريمهن آية: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}.
وأما الملاعنة فقد خصّص الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم فيها: «المتلاعنان إذا تفرّقا لا يجتمعان قبل موته».
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (ما) واقعة على الاستمتاع، والعائد في الخبر محذوف، أي فآتوهن أجورهن عليه. كقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] أي منه، ويجوز أن تكون واقعة على النساء، وأعاد الضمير في (به) عليها باعتبار اللفظ، وفي {مِنْهُنَّ} باعتبار المعنى، وقوله: {فَرِيضَةً} معمول لفرض محذوف، والمراد بالأجور المهور، لأنها في مقابلة الاستمتاع، فسميت أجرا.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} من حطّ لكله أو بعضه، أو زيادة عليه.
أمر بإيتاء الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف.
وقيل: نزلت في المتعة، وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما ليلة، أو ليلتين، أو أسبوعا بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرا، ثم يتركها.
واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا، فذهب الجمهور إلى أنها نسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، وروي أنه رجع عن القول بها قبل موته.
والراجح أنّ الآية ليست في المتعة، لأنّ الله ذكر المحرّمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحلّ ما وراء ذلكم، أي في هذا النكاح نفسه.
والراجح أنّ حكم المتعة الثابت بالسنة قد نسخ، لما أخرج مالك عن علي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: «يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإنّ الله قد حرّمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».
وروي عن عمر: لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا رجمتهما بالحجارة.
ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} والمستمتع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها، لأنها لا ترثه، ولا يلحق به ولدها.
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً} بمصالح عباده {حَكِيماً} فيما شرع لكم من الأحكام، ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم.

.تفسير الآية رقم (25):

قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلى قوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}.
أصل الطّول الفضل والزيادة، والمراد به هنا الزيادة في المال والسّعة.
والمراد بالمحصنات: الحرائر، بدليل مقابلتهن بالمملوكات.
لما بيّن الله من لا يحل من النساء ومن يحل منهن، بيّن لنا فيمن يحل أنه متى يحل؟ وعلى أي وجه يحل؟ فقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلخ يقول: ومن لم يستطع منكم زيادة في المال، وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة: فلينكح أمة من الإماء المؤمنات، وإذا ضممت إلى هذا القدر قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ الله شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة:
الأول: ألا يجد الناكح مالا يتزوّج به حرّة.
والثاني: أن يخشى العنت، وسيأتي بيانه.
والثالث: أن تكون الأمة التي يريد نكاحها مؤمنة، لا كافرة.
وإنما ضيّق الله في نكاح الإماء باشتراط هذه الشروط لما في نكاحهم من أضرار، أهمّها تعريض الولد للرق، لأن الولد يتبع الأمّ في الرق والحرية، فإذا كانت الأم رقيقة علقت بالولد رقيقا، وذلك يوجب النقص في حقّ الوالد وولده- وسنذكر بعض الأضرار عند قوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}- وبهذا الظاهر تمسك الشافعيّ رضي الله عنه، وهو أيضا قول ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير ومكحول وآخرين.
وروي أنّ مسروقا والشعبيّ قالا: نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، لا يحل إلا للمضطر.
وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن المسيّب وآخرين أنهم قالوا: ينكح الأمة وإن كان موسرا.
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه إلى جواز نكاح الأمة لمن ليس تحته حرّة، سواء أكان واجدا طول حرة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، واحتج الحنفية على ذلك بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3] وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} وقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وجميع ذلك يتناول الإماء الكتابيات، ولم يشترط فيه عدم الطول، ولا خوف العنت، فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب التخصيص، ولم تنتهض هذه الآية التي معنا حجة مخصّصة! أما أولا: فلأنّها ما دلت على ما ذهب إليه المخالف إلا بمفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند الإمام رضي الله عنه.
وأما ثانيا: فعلى تقدير الحجّيّة يكون مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعمّ من ثبوت الحرمة أو الكرامة، ولا دلالة للأعم على ما خص بخصوصه، فيجوز ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة سواء بسواء، والكراهة أقلّ في مخالفة العمومات، فتعيّنت، فقلنا بها.
وقالوا في قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}: إنه ليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح، لعموم مقتضى الآيات.
وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض الآية التي معنا إلا معارضة العامّ للخاص، والخاص مقدّم على العام، وبأن الحنفية خصصوا عموم هذه الآيات فيما إذا كان تحته حرة، فقالوا: لا يجوز له نكاح الأمة، وإنما خصّصت لصون الولد عن الإرقاق، وهذا المعنى قائم في محل النزاع، فيجب أن يعطى حكمه، وهو عدم الجواز، وبأن صون الولد عن الإرقاق يمنع من نكاح الأمة، ولكن الآية أباحته لضرورة من خشي العنت، وفقد الطّول إلى الحرة، وشرطت أن تكون الأمة مسلمة، ففيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.
روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه تأوّل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} على عدم وجود الحرة في عصمته، وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته، وعليه يكون المراد بالنكاح في قوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ} الوطء، ويكون التقدير: ومن لم يستطع منكم وطء الحرة. إلخ. والذي لا يستطيع وطء الحرة هو من لا يكون تحته حرة، فيكون منطوق الآية مساويا لقولنا: ومن ليس تحته حرة فلينكح أمة، وبذلك تنقلب الآية حجة للحنفية.
قال الفخر الرازي: وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد، لا في عدم القدرة على الوطء.. اهـ.
نزيد على ذلك تأويل أبي يوسف رحمه الله مع مخالفته رأي الجمهور من المفسرين لم ينه الإشكال بتمامه، إذ لا يزال الوصف في قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} محل خلاف، وكذلك قوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} لا يزال أيضا محل خلاف. ألهما مفهوم يعمل به أم ليس لهما مفهوم؟ ويعود الكلام من أوله، وتعود الشبهة جذعة: وللحنفية دليل خاص بجواز نكاح الأمة الكتابية، وهو قياسها على الحرة والمملوكة الكتابيتين.
وأجاب الشافعي بأنه إذا تزوّج الحرة الكتابية، أو وطئ مملوكته الكتابية، فهناك نقص واحد، أما إذا تزوّج الأمة الكتابية فهناك نقصان الرق والكفر، فظهر الفرق.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ} معناه اعملوا على الظاهر في الإيمان، فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، والله يتولى السرائر، فالإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة، ولا يشترط فيه العلم بالإيمان علما يقينيا، إذ لا سبيل لكم إليه.
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فيه تأويلان:
الأول: أنكم وفتياتكم من جنس واحد، وكلكم أولاد آدم، فلا تستنكفوا أن تنكحوا الإماء عند الضرورة.
والثاني: أنكم مشتركون في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل، فالتفاوت فيما وراءه لا ينبغي الالتفات إليه. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات: 13] وهذا التأويل يقوّي قول الشافعي إن الإيمان شرط في نكاح الأمة، وعلى كلا التأويلين الجملة معترضة لتأنيس قلوبهم، وإزالة النفرة عن نكاح الإماء، وكانوا في الجاهلية يفتخرون بالأنساب، ويضعون من شأن الابن الهجين، فأعلمهم الله بهذه الكلمة أنّه لا فضل لأحد على أحد إلا بالدّين، وأنه لا ينبغي التخلّق بأخلاق الجاهلية الأولى.
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أعيد فيه الأمر- مع فهمه مما قبله- لزيادة الترغيب في نكاح الإماء، والمراد بالإذن هنا الرضا، وبالأهل أهل المولى.
اتفق العلماء على أنّ نكاح الأمة بغير إذن سيدها غير جائز، عملا بظاهر هذه الآية، فإنّ قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يقتضي كون الإذن شرطا في جواز النكاح، وإن لم يكن النكاح واجبا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم».
فالسلم ليس بواجب، لكنّه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط.
وكذلك اتفقوا على أنّ نكاح العبد بغير إذن سيده غير جائز إلا قولا حكيناه فيما سبق عن الإمام مالك، ونفى بعض علماء المالكية نسبة هذا القول إلى الإمام رضي الله عنه.
وقد روينا لك حديث جابر: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر».
وقلنا: إن في تنفيذ نكاح الرقيق تعييبا له، فلا يملكه إلا بإذن مولاه.
والمراد بعدم جواز نكاح الرقيق بغير إذن مولاه عند الشافعي أنه نكاح باطل غير صحيح، ويشهد له ظاهر الآية والحديث.
والمراد بعدم الجواز عند الحنفية عدم النفاذ، لا عدم الصحة، بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك، وهو رواية عن أحمد كما قال صاحب روح المعاني.
وادّعى بعض الحنفية أنّ الآية تدلّ على أنّ للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنّه اعتبر فيها إذن الموالي لا عقدهم، وهو غير سديد لوجهين:
أمّا أولا: فلأنّ الآية دلت على أن رضا المولى لابد منه، فأما أنه كاف في النكاح فليس في الآية دليل عليه، لأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم، فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل، فلا يلزم جواز مباشرتهن العقد بأنفسهن.
وأما ثانيا: فلأنّه وإن يكن المراد من الأهل الموالي، لكن الفقهاء حملوا ذلك على من له ولاية للتزويج، وذلك إما المولى إن كان رجلا، أو ولي مولاه إن كان مولاه امرأة.
ولو سلّم أن المراد بالأهل الموالي لا غير فهو عام يتناول الذكور والإناث، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة، والخاص مقدّم على العام.
{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أكثر المفسرين على أن المراد بالأجور المهور، وعلى هذا التأويل تكون الآية دالّة على وجوب مهر الأمة إذا نكحها، سواء أسمي المهر في العقد أم لم يسمّ، ويكون قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} مرادا منه مهر المثل، أو إيصال المهر إليها على العادة عند المطالبة من غير مطل ولا تأخير.
والآية على ظاهرها تؤيّد ما حكاه بعض العلماء عن الإمام مالك أن مهر الأمة لها. وهذا يوجب كون الأمة مالكة، مع أنه لا ملك للقن، فلعله أراد أنها مالكة لمهرها يدا، كالعبد المأذون له في التجارة، لأن الإذن في نكاحها إذن لها في أن تضع يدها على المهر، فيجب التسليم إليها كما هو ظاهر الآية.
وأكثر الأئمة على أنّ المهر للسيّد، لأنّه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيد: وهو الذي أباحها للزوج بعقد النكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأنه لا ملك للقن، لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ} [النحل: 75] وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا.
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «العبد وما في يده لمولاه».
وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية بأن المراد: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، وهذا القيد مقدّر في الكلام، لتقدم ذكره، أو أنّ المراد وآتوا: أهلهن مهورهن، وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر، والتنبيه على أنه حقّهن من جهة أنه ثمن بضعهن، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين.
واختار بعض العلماء أنّ المراد من أجورهن النفقة عليهن، فكأنّه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها إذا سلمت إليه كالحرة، وحصلت التخلية من المولى بينه وبينها، ويكون قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} هنا معناه آتوهن نفقتهن بالمعتاد المتعارف فيما بينكم، كقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وعلى هذا التأويل لا يكون في الآية دلالة على ما حكي عن الإمام مالك أن المهر للأمة لا لسيدها.
{مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ}.
المحصنات هنا العفائف.
والمرأة المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها. والتي تتخذ الخدن هي التي تتخذ صاحبا معينا.
وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بأنها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم، أفرد الله كل واحد من هذين القسمين بالذكر، ونصّ على حرمتهما معا، ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأعراف: 33] وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأنعام: 151].
وهذه الكلمات واقعة حالا من مفعول {فَانْكِحُوهُنَّ} أو {وَآتُوهُنَّ} وظاهر ذلك يمنع من نكاح الأمة الزانية، لكنه روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن نكاح الزانية فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح».
لذلك، ولأنّ الحرام لا يحرّم الحلال حمل العلماء هذه الآية على الندب والاستحباب.
وسيأتي حكم نكاح الزانية عند قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً} [النور: 3].
{فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}، يقول الله: فإذا أحصنّ بالتزوج فإن زنين فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وظاهر هذا أنّ الأمة لا تحدّ إذا زنت ما لم تتزوّج، وحكي هذا الظاهر مذهبا لمجاهد وطاووس. قال الزهري: المزوّجة محدودة في القرآن، وغيرها بالسنة، روى الشيخان عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: «إن زنت اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير».
فهذا الحديث الشريف دلّ على أنّ قوله: {فَإِذا أُحْصِنَّ} لم يجر مجرى الشرط، بل جيء به لدفع فتوهم أنّ التزويج يزيد في حدّهن، فلا مفهوم له.
ومعلوم أنّ حدّ الحرائر الثيبات الرجم، وهو لا يتنصّف، فلا يكون مرادا هنا، وحدّ الحرائر الأبكار جلد مئة، ونصفه خمسون جلدة، فهو حد الأمة مطلقا كما علمت.
{ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} الإشارة إلى نكاح الإماء، وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، ثم توسّع فيه، فاستعمل في كل جهد ومشقة، والمراد به هنا الزنا، وقد علمت أنّ خشية الزنى شرط آخر في جواز نكاح الإماء عند الشافعي رضي الله عنه، وأن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح.
{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يقول الله تعالى: وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن، وإن رخص لكم فيه بشروطه السابقة: ذلك لما فيه من إضرار بعد تعريض الولد للرق، فإنهنّ ممتهنات مبتذلات خرّاجات ولاجات، وذلك ذلّ ومهانة لا يكاد يتحملها غيور، ولأنّ حق الموالي فيهن أقوى من حق الزوجية، فقد يستخدمونهن أكثر الأوقات، ولا يسلمونهن لأزواجهن إلا قليلا، وقد يسافرون بهن، أو يبيعونهن لحاضر أو باد، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لاسيما إذا كان لهم منهنّ أولاد.
وفي مسند الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت».
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه» وعن ابن عباس أنه قال: ما تزحف ناكح الأمة عن الزنى إلا قليلا، وعن أبي هريرة وابن جبير مثله.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: والله واسع المغفرة، كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وفي ذلك تنفير عنه حتى كأنه ذنب، وهو واسع الرحمة كثيرها، فلذلك رخص لكم في نكاحهن.